سيادة الدولة والالتزامات الدولية- صراع أم توازن؟

المؤلف: طلال صالح بنان08.27.2025
سيادة الدولة والالتزامات الدولية- صراع أم توازن؟

منذ أواسط القرن السابع عشر، وبالتحديد عقب معاهدة وستفاليا في عام 1648، بزغت فكرة الدولة القومية الحديثة. تلك المعاهدة، التي أنهت حقبة الحروب الدينية الطاحنة في أوروبا، والتي لطالما اعتُبرت المحرك الرئيسي لزعزعة الاستقرار على الأصعدة المحلية والعالمية، حملت في طياتها بشائر نظام عالمي جديد. قوام هذا النظام هو مجموعة من الدول ذات السيادة، تتمتع بسلطة مطلقة داخل حدودها، وحصانة دولية تحمي تحركاتها خارج نطاقها الإقليمي. لقد ساد الاعتقاد حينها بأن هذه الكيانات السياسية المستقلة، بسيادتها الكاملة على مقدرات أراضيها وشعوبها، وأنانيتها المتأصلة في خدمة مصالحها الذاتية، ضمن نطاقيها الإقليمي والعالمي، ستكون بمأمن بفضل قوانين "دولية" تضع ادعاءاتها "الوطنية" في مرتبة أعلى من مصير السلام العالمي.

لكن سرعان ما تبدّى التناقض الصارخ بين احترام مبدأ سيادة الدول وبين تغليب مبدأ التزاماتها الدولية، تحت ذريعة الدفاع عن النفس أو "الأمن القومي". هذا التناقض يظهر في رفض أي تدخل خارجي، حتى وإن كان صادرًا عن الدول ذاتها، ويستمد شرعيته الأممية من إرادتها والتزامها بالحفاظ على الاستقرار والسلام العالميين. فالإعلاء من شأن سيادة الدول على أراضيها، وجعله υπεραίνει على التزاماتها تجاه السلام، لا بد أن يصطدم يومًا ما بتعارض إرادات الدول في الدفاع عن سيادتها الوطنية مع تمسكها بالتزاماتها الدولية. ذلك أن أي نظام دولي يقوم أساسًا على كيانات "وطنية" تتسم بالغيرة الشديدة على سيادتها، وتشك بطبيعتها في أي تدخل خارجي، حتى لو كان يهدف إلى مساعدتها في الدفاع عن نفسها وتنميتها، سيؤول حتمًا إلى نظام دولي هشّ وغير مستقر، يهدد السلام والأمن العالميين.

في قرارة نفس كل كيان دولي (دولة)، يكمن دائمًا شك فطري وتربص بأي تطور خارجي، سواء على الصعيد الإقليمي أو الدولي، يقترب من حدوده الإقليمية، حتى لو كانت الدولة نفسها مشاركة في تلك التطورات. قد تُفرض في بعض الأحيان أوضاع جيوسياسية تستدعي اتخاذ ترتيبات أمنية لمواجهة عوامل ومتغيرات عدم الاستقرار التي تلوح في الأفق القريب من مجال الدولة الإقليمي. صحيح أن الدول قد تنجذب أحيانًا نحو ترتيبات أمنية إقليمية تدعم أهدافًا مشتركة، وتتفوق في تقدير قيمتها الأمنية على أي اعتبارات مصلحية أخرى، إلا أن الدول، في معظم الأحيان، تميل، إذا ما أتيحت لها الفرصة، إلى الاعتماد على مواردها الذاتية، مقابل أي تدخل محتمل من جيرانها أو حلفائها الخارجيين.

إذا كان الأمر متروكًا للدول، لفضّلت إغلاق حدودها بإحكام، بدلًا من فتح منافذها البرية والبحرية والجوية للبيئة الإقليمية والدولية، عملًا بالمثل القائل: "الباب الذي يأتيك منه الريح سده واستريح". لكن ليس دائمًا ما تواجه الدول الشكوك التي تنتابها من محيطها الداخلي والخارجي باللجوء إلى إستراتيجية العزلة، لأنها ليست إستراتيجية عملية لخدمة مصالحها الخارجية، وعلى رأسها أمنها، حتى بالنسبة للدول العظمى.

بدايةً، يجب التأكيد على أن الدولة، أي دولة، مهما بلغت من القوة والنفوذ والثراء والتقدم، لن تتمكن أبدًا من تحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل بمواردها وإنتاجها وسوقها الداخلية، ممّا يجعلها في حاجة ماسة إلى البيئة السياسية (الخارجية) المحيطة بها. غالبًا ما تلجأ الدول إلى الانخراط في محيط السياسة الدولية المتلاطم الأمواج والصاخب الإيقاع، بغية إشباع حاجاتها الخاصة، بأقل تكلفة ممكنة، وأعلى عائد متوقع. الدول في محيطها الإقليمي والدولي، تتصرف كسائر التجار الأذكياء، الذين يسعون إلى تحقيق أقصى الأرباح، بأقل التكاليف وأدنى المخاطر.

تجد الدول الكبرى، على سبيل المثال، نفسها مضطرة أحيانًا إلى تبني سياسة حمائية تجارية، عندما ترى أن ذلك يخدم مصالحها الاقتصادية، على الأقل بهدف تخفيض العجز في ميزانها التجاري. وفي أحيان أخرى، تلجأ إلى اتباع سياسة انفتاحية وتداخلية مع محيطها الإقليمي وبيئتها الخارجية البعيدة، من أجل الاستفادة القصوى من عوائد التجارة الخارجية، وزيادة حصتها من موارد البيئة الخارجية، من خلال استغلال ميزاتها التنافسية (الإنتاجية أو الريعية) في السوق العالمية.

إن جميع تصرفات الدول على مستوى محيطها الإقليمي وبيئتها الخارجية تحركها غريزة أنانية متطرفة، تصل أحيانًا إلى حد "العمى السياسي". فحتى نظرة الدولة إلى مفاهيم السلام والاستقرار والتكامل الإقليمي والتعاون الدولي تنطلق من دافع خدمة مصالحها الأنانية، لا من إدراك حقيقي لقيمة السلام، ولا من استيعاب لأهمية الاستقرار، ولا من تبصّر لحكمة سيادة حالة التوازن في النظام الدولي.

إن نظام الدولة القومية الحديثة، الذي يُبقي على الخلفية الأنانية لأعضائه من الدول، على الرغم من التزامه الظاهري بقيم السلام والاستقرار والتكامل والتعاون (الإقليمي والدولي)، يعكس في حقيقة الأمر انتكاسة جينية سلبية في مسيرة التاريخ الإنساني. فهو لا يمثل بالضرورة نظرة تقدمية تهدف إلى استيعاب قيم وعوائد التكامل الإقليمي والتعاون الدولي، بل هو أقرب إلى حركة نحو الصراع والمنافسة، سعيًا وراء وضعية الهيمنة الإقليمية والدولية، على حساب استقرار النظام الدولي وتعزيز قيمة التكامل والتعاون لمصلحة أعضائه البينية.

الدول، في واقع الأمر، يمكن النظر إليها بنظرة تشاؤمية (رجعية) باعتبارها معاول هدم ممنهج ومنظم لمستقبلها، ولدورها في استقرار مجتمعات الأرض. فلا عجب أن تطوّر الدول نفسها من داخلها عوامل تقويضها، بظهور قوى هدامة تساهم في المساومة على سيادتها، لتعيد حركة الصراع العنيف على السلطة في المجتمعات الإنسانية إلى المربع الأول، أي إلى ما قبل ظهور نموذج الدولة القومية الحديثة. وهذا يؤكد أن حركة الصراع العنيف، وليس قيمة التكامل والتعاون، هي انعكاس فطري لطبيعة الإنسان الشريرة (الأنانية الجشعة).

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة